السلاح والضمانة دروسٌ داميةٌ من سجلات التاريخ.. حين يكون التجرد من القوة انتحارًا بلال الموسوي ❗خاص❗ ❗️sadaw
السلاح والضمانة: دروسٌ داميةٌ من سجلات التاريخ.. حين يكون التجرد من القوة انتحارًا
بلال الموسوي
❗خاص❗ ❗️sadawilaya❗
لم تكن صفحات التاريخ سوى سجلٍّ دامٍ لخديعةٍ كبرى: شعوبٌ وحركاتٌ تخلت عن سلاحها طمعًا في سلامٍ مُوعود، فلم تجد سوى الغدر والإبادة. من أطلال نوميديا القديمة إلى سهول "الركبة الجريحة"، ومن قصور غرناطة الزائلة إلى أزقة غزة الحاضرة، يتردد صدى الحقيقة المرّة: التجرد من القوة دون ضماناتٍ لا تُنقض، هو استدراجٌ للموت السياسي أو الجسدي. فالقوة وحدها، لا حسن النوايا، هي اللغة التي تفهمها دول الطغيان وآلات الاحتواء.
دروس التاريخ: حين يتحول التسليم إلى مذبحة
1. نوميديا ويوغرطة: الغدر الروماني في أوج بهائه (104 ق.م)
بعد سنواتٍ من صمود الملك يوغرطة أمام جبروت روما، خُدع بوعود العفو والسلام. ما إن سلَّم سلاحه ودخل روما، حتى أُهين وقُيد وأُعدم خنقًا في سجنه. لم تكن نهاية رجل، بل إماتةٌ لمملكةٍ بأكملها، وابتلاعٌ لأرضٍ طالما اشتهاها الغازي.
2. غرناطة: الأمانة الكاذبة التي مزقت الأندلس (1491م)
وقّع أبو عبد الله الصغير معاهدة التسليم مع فرديناند وإيزابيلا، مكتوبةً بدماء الضمانات المقدسة: حماية المساجد، وحرية الدين، وصون الكرامة. لكن الورق لم يحمِ الحقوق. قبل أن يجف حبر الاتفاق، بدأ مسلسل التضييق، ليتوج بطرد الموريسكيين أو إجبارهم على التنصير، وتصفية حضارةٍ عريقةٍ كانت إشراقة للعالم آنذاك.
3. "الركبة الجريحة": السلام الأمريكي على جثث الهنود (1890م)
في ديسمبر القارس، وافق شعب "لاكوتا سيوكس" المنهوك على التسليم للجيش الأمريكي عند جدول "ووندد ني". طُلب منهم نزع السلاح أولاً. أثناء التفتيش، انطلقت رصاصةٌ غامضة، فانقض الجنود بمدافعهم الرشاشة على الرجال والنساء والأطفال العزل. ثلاثمائة قتيلٍ كانوا ثمن الثقة بوعود المحتل.
تجارب معاصرة: صدى المأساة في عصرنا
1. الحشد الشعبي في العراق: السلاح الذي حوَّل المكون إلى حصن (2014 - )
بعد سقوط الموصل بيد داعش عام 2014، واجه المكون العراقي خطر الإبادة. رفضت قياداته حينها مقترحات "التسليم المشروط" للسلاح تحت ذرائع "دمج المؤسسات"، وأصرت على الاحتفاظ بتشكيلات الحشد الشعبي كقوة منظمة. هذا القرار أثبت حكمته لاحقًا: لم يُنقذ السلاحُ الأقلياتَ من التهجير فحسب، بل حوَّل الحشدَ إلى جدار صدٍّ ضد الإرهاب، وورقة ضغطٍ سياسيةٍ منعَت تهميش المكون. النموذج يُظهر أن القوة المنظمة قد تكون الضمانة الوحيدة لبقاء المجتمعات الهشة في بيئةٍ سياسيةٍ هشة.
2. ليبيا: الدولة المدنية.. سراب في بحر الفوضى (2011 - )
بعد سقوط القذافي، جرى تفكيك المؤسسة العسكرية تحت شعار "بناء الدولة". سُلمت أسلحةٌ ثقيلة، واختفت الضوابط. النتيجة؟ انفجار البلاد إلى إقطاعيات ميليشياوية، تحكمها البنادق وتنهشها الأجندات الخارجية. حتى من نزعوا سلاحهم طوعًا، وجدوا أنفسهم لقمةً سائغةً في معركة البقاء.
3. لبنان: استثناء الطائف.. حكمة أنقذت الوطن (1989 - )
في قلب اتفاقية إنهاء الحرب الأهلية، كان الاستثناء الوحيد: إبقاء سلاح المقاومة الإسلامية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. رغم الضغوط الدولية الهائلة، أثبت هذا السلاح أنه الضامن الوحيد لسيادة لبنان: أجبر "إسرائيل" على الانسحاب عام 2000، وحمى البلاد من الاجتياح عام 2006، وأصبح ركنًا في معادلة الردع الإقليمية. كان الدرس: القوة المنضبطة تحفظ الكيان.
4. فلسطين: أوسلو.. السلم الذي أكل المقاومة (1993 - )
في الضفة الغربية، سلكت منظمة التحرير طريق التسليم التدريجي للسلاح مقابل دولةٍ وهمية. النتيجة؟ استيطانٌ متوحش، وتقييدٌ للحركة، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى شرطي لحماية المحتل. في غزة، حين احتفظت فصائل المقاومة بسلاحها، فرضت معادلةً جديدة: صواريخٌ بدائيةٌ أجبرت جيشًا نوويًا على حساب سقوط قتلى. الفارق بين مصير الضفة وغزة هو الفارق بين التسليم والتمسك بضمانة الردع.
الخلاصة: كيف نكسر حلقة الغدر؟
التاريخ لا يرحم من يغفل عن دروسه. هذه التجارب – من نوميديا إلى الحشد الشعبي – تصرخ بخمس حقائق:
1. السلاح وسيلة بقاء: ليس ترفاً بل ضرورة دفاعية حين تتعرض الهوية والوجود للخطر.
2. الوعود وهمٌ بدون قوة رادعة: ضمانات الخصوم تذروها رياح المصالح إن لم تُدعم بقدرةٍ على الرد.
3. القوة البديلة شرطٌ غير قابلٍ للمساومة: أي نزع سلاح يجب أن يرافقه بناء مؤسسات سيادية أو حماية دولية ملزمة.
4. الردع يفرض السلام: ما حمى لبنان وحرر جنوبه، وما أنقذ المكون، كان توازنَ قوةٍ يجعل العدوان مكلفاً.
5. التجريد = تذويب الهوية: كما في الضفة الفلسطينية، أو مصير من سلَّم سلاحه في ليبيا والعراق.
في عالمٍ لا يحترم إلا لغة القوة، يكون التخلي عن الضمانة الأخيرة انتحاراً وجودياً. دروس الماضي والحاضر تقول: لا تضع سيفك إلا في يد من يضمن لك حقَّ البقاء فوق ترابك وانت مرفوع الرأس.
ان ما ينشر من اخبار ومقالات لا تعبر عن راي الموقع انما عن رأي كاتبها